
أشار مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء إلى أن الطاقة أصبحت تمثل شريان الاقتصاد العالمي وأداة نفوذ جيوسياسي رئيسية، موضحًا أنه مع كل أزمة إقليمية أو صراع دولي، يتم إعادة رسم خريطة ممرات الطاقة وفقًا لمعادلات جديدة من القوة والمصلحة.
في تحليل جديد بعنوان «كيف تعيد الأزمات الجيوسياسية تشكيل خريطة ممرات الطاقة العالمية؟»، أوضح المركز أن الأزمات الجيوسياسية، بدءًا من الحرب الروسية الأوكرانية وصولًا إلى التوترات في الخليج العربي والبحر الأحمر، كشفت عن هشاشة الاعتماد المفرط على ممرات معينة مثل مضيق هرمز أو مضيق باب المندب، مما دفع الدول المنتجة والمستوردة للطاقة للبحث عن مسارات بديلة تضمن الأمن والاستمرارية.
في ظل هذا الواقع المتقلب، لم تعد ممرات الطاقة مجرد مسارات جغرافية لنقل النفط والغاز، بل أصبحت ساحات صراع استراتيجي وتجاذب سياسي، تشكلها التكتلات الإقليمية، والرهانات الاقتصادية، والتقلبات البيئية.
من خطوط الأنابيب العابرة للقارات إلى مشروعات الموانئ البحرية خارج مناطق التوتر، تسير الدول نحو إعادة توزيع الجغرافيا الطاقية بما يتجاوز منطق الموقع إلى منطق الأمان والتحكم.
سعى المركز من خلال هذا التحليل إلى تسليط الضوء على آثار التداعيات المحتملة التي كانت تسود خلال الفترة الأخيرة بشأن إغلاق إيران لمضيق هرمز على حركة الطاقة وأسواق النفط، بالإضافة إلى كيفية مساهمة الأزمات الجيوسياسية في خلق حلول وممرات طاقوية بديلة لتجاوز نقاط الاختناق، كما عرض أبرز الممرات الطاقوية المحتملة التي بدأ الحديث عنها بعد فترة عصيبة ساد فيها الحديث حول الاعتماد عليها كبديل لمضيق هرمز.
أولًا، دور الأزمات الجيوسياسية في رسم خريطة الطاقة: تُعيد الأزمات الجيوسياسية، مثل النزاعات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والتوترات الإقليمية، تشكيل خريطة ممرات الطاقة العالمية من خلال عدة آليات رئيسية، أبرزها إعادة توجيه تدفقات الطاقة العالمية، حيث تؤدي الأزمات الجيوسياسية دورًا محوريًا في إعادة توجيه تدفقات الطاقة العالمية، فعندما تتأثر منطقة عبور رئيسية، مثل المضائق والممرات المائية، تتحول تدفقات الطاقة إلى مسارات بديلة، مما يزيد الاعتماد على ممرات جديدة أو أقل استخدامًا، على سبيل المثال، دفعت الحرب في أوكرانيا أوروبا للابتعاد عن الغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا والبحث عن بدائل مختلفة، كما أن تهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر دفعت بعض شركات النفط إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح لتجنب المخاطر الأمنية بمضيق باب المندب.
ثانيًا، تسريع تنويع مصادر وموردي الطاقة: تلجأ الدول إلى تنويع مصادر وموردي الطاقة خلال الأزمات تجنبًا لاحتمالات توقف الإمدادات بشكل مفاجئ، وقد برز هذا التوجه بوضوح بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث سارعت الدول الأوروبية لتعزيز استثماراتها في إنتاج الطاقة، وبدأت تبحث عن بدائل خارجية لتأمين احتياجاتها، فتوجهت أنظارها نحو عدد من الدول الإفريقية، مثل جنوب إفريقيا وناميبيا وأوغندا وكينيا، باعتبارها شركاء محتملين في هذا المجال.
ثالثًا، تعزيز الأهمية الجيوسياسية لدول الممر: تكتسب دول العبور والممرات الطاقوية أهمية متزايدة في فترات الأزمات والصراعات الجيوسياسية، ويُعتبر انتهاء اتفاقية عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا مثالًا واضحًا على ذلك، إذ أتاح لتركيا فرصة تعزيز دورها كممر رئيسي لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا من خلال خط «السيل التركي»، كما تزداد الأهمية الجيوسياسية لأنقرة بفضل موقعها القريب من عدة دول مُصدِّرة للطاقة، وارتباطها بشبكة من خطوط الأنابيب، مما يمنحها ميزة استراتيجية في معادلات أمن الطاقة الإقليمي والدولي.
رابعًا، التداعيات المحتملة على ما أثير خلال الفترة الماضية بشأن إغلاق مضيق هرمز: يُشكِّل مضيق هرمز أحد أهم الشرايين الحيوية لاقتصاد الطاقة العالمي، حيث شكّلت تدفقات النفط عبر مضيق هرمز نحو 20.3 مليون برميل يوميًا في عام 2024، مما يمثل أكثر من ربع إجمالي تجارة النفط العالمية المنقولة بحرًا، ونحو خُمس الاستهلاك العالمي من النفط والمنتجات البترولية، كما يُعتبر المضيق قناة حيوية للغاز الطبيعي المسال، حيث عَبَر مضيق هرمز نحو خُمس تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية في عام 2024، مما يجعل المضيق حيويًا بالنسبة للغاز الطبيعي كما هو الحال بالنسبة للنفط.
تَعتمد الدول الأعضاء في منظمة أوبك، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وإيران، والإمارات، والكويت، والعراق، على هذا المضيق لتصدير الجزء الأكبر من إنتاجها النفطي، خصوصًا إلى الأسواق الآسيوية، ورغم ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من وقف لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل، فإن الأحداث كشفت أنه في حالة إغلاق مضيق هرمز، فإن ذلك سيؤدي إلى اضطراب فوري في أسواق الطاقة العالمية، مما يتسبب في ارتفاع حاد في أسعار النفط وتأثير تضخمي سريع يمتد من الولايات المتحدة إلى مختلف أنحاء العالم.
ومع ذلك، فإن التداعيات الاقتصادية لا تقتصر على الأسعار فقط، بل تتجاوزها لتشكل تهديدًا واسع النطاق للاستقرار الإقليمي والدولي، فالمضيق لا يُستخدم فقط لتصدير نفط الخليج، بل تمر عبره أيضًا صادرات النفط الإيراني، مما يعني أن أي تعطيل له سيضرب مصالح طهران وحلفاءها، إلى جانب دول الخليج العربي التي تعتمد عليه بشكل كبير في حركة تجارتها النفطية، أما الصين، فتُعتبر من أكثر المتضررين المحتملين، إذ تعتمد على مضيق هرمز في الحصول على ما يقرب من 90٪ من وارداتها من النفط الإيراني، رغم العقوبات المفروضة، وبالتالي، فإن أي إغلاق لهذا الممر الحيوي سيضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم أمام تحدٍ كبير في أمن الطاقة واستقرار النمو.
قد يكون لإغلاق مضيق هرمز تداعيات اقتصادية واسعة النطاق تمتد لتشمل سلاسل التجارة العالمية، حيث قد يقفز سعر برميل النفط إلى نحو 120 دولارًا أمريكيًا في حالة إغلاق المضيق، مما سيؤدي إلى ضغوط تضخمية عالمية، وفي حال تعثُّر إنتاج الغاز الطبيعي، فإن ذلك قد ينعكس سلبًا على إنتاج الأسمدة، الأمر الذي قد يُفضي إلى نقص في الغذاء وحدوث اضطرابات، كما يُتوقع أن تشهد مختلف الدول ارتفاعًا عامًا في الأسعار نتيجة زيادة تكاليف الطاقة.
خامسًا، ممرات الطاقة البديلة لمضيق هرمز: كلما تزايد التوتر العسكري في الخليج وهُدِّدت الملاحة البحرية، طُرِحت بدائل لتصدير النفط عبر ممرات أخرى، ورغم استبعاد أن تقوم إيران بإغلاق مضيق هرمز بشكل كامل، برزت الحاجة إلى البحث عن بدائل للمضيق للحفاظ على استمرار تدفق الطاقة، ومن أبرز البدائل الممكنة: خط أنابيب أبوظبي- الفجيرة، الذي يُشكل مسارًا استراتيجيًا بديلًا لتصدير النفط الإماراتي إلى الأسواق العالمية، حيث يمتد هذا الخط الحيوي لمسافة 406 كم، ويبلغ سعته التصميمية نحو 1.5 إلى 1.8 مليون برميل يوميًا، مما يمنحه قدرة كبيرة على تأمين تدفق مستقر للنفط، إذ يتيح تصدير نحو 70٪ من النفط الخام الإماراتي بعيدًا عن الممرات البحرية المهددة، مما يُعزز أمن الطاقة ومرونة الإمدادات في أوقات الأزمات الجيوسياسية.
كما تُعَد السعودية من الدول التي جهَّزت مسارًا بديلًا لمضيق هرمز، وهو خط أنابيب «بقيق- ينبع»، المعروف أيضًا باسم «بترولاين»، الذي ينقل النفط الخام من حقل بقيق في المنطقة الشرقية إلى ميناء ينبع على ساحل البحر الأحمر، ويمتد لمسافة تقارب 1200 كم عبر أراضي المملكة، ويتيح هذا الخط تصدير النفط السعودي دون الاعتماد على المرور عبر مضيق هرمز، مما يمنح الرياض هامشًا استراتيجيًا في حال حدوث توترات أو تهديدات في الخليج.
كما شغلت إيران خط أنابيب «غوره- جاسك»، حيث يتيح لها تصدير النفط دون الحاجة إلى عبور مضيق هرمز، ويمتد الخط لمسافة تقارب 1000 كم، ناقلًا النفط من منطقة غوره في غرب محافظة بوشهر إلى ميناء جاسك في شرق محافظة هرمزغان، مما يُسهم في تقليص تكاليف تصدير النفط، ويعزز قدرة إيران على مواصلة تصدير نفطها حتى في ظل التوترات أو الاضطرابات الأمنية في منطقة الخليج ومضيق هرمز.
تلعب مصر أيضًا دورًا محوريًا كحلقة وصل بين الخليج وأوروبا في تجارة النفط، حيث تستقبل شحنات النفط الخليجي، خاصة السعودي، في محطة العين السخنة، وينقل النفط عبر خط أنابيب «سوميد»، الذي يمتد لمسافة 320 كم من العين السخنة على خليج السويس إلى ميناء سيدى كرير على البحر المتوسط، وتبلغ الطاقة الاستيعابية للخط نحو 117 مليون طن سنويًا، مما يجعله مسارًا استراتيجيًا لتأمين إمدادات النفط من الخليج إلى الأسواق الأوروبية دون الاعتماد الكامل على الممرات المائية التقليدية مثل مضيق هرمز.
في ضوء ما سبق، يتضح أن الأزمات الجيوسياسية لا تكتفي بتعطيل تدفقات الطاقة فحسب، بل تُحدث تحولات بنيوية في خريطة ممرات الطاقة العالمية، ففي كل مرة يلوح فيها شبح الصراع أو التهديد الأمني، تتعزز قناعة الدول المنتجة والمستوردة للطاقة بضرورة تنويع خياراتها الاستراتيجية، سواء عبر إنشاء خطوط أنابيب برية وبحرية، أو تطوير موانئ تصدير بديلة، وفي هذا السياق، تبدو خريطة الطاقة المستقبلية مرشحة لمزيد من التعقيد والانقسام، حيث تزداد أهمية الأطراف القادرة على توفير الاستقرار والمرونة في زمن التقلُّب، ومن ثَمَّ، فإن مسألة أمن الممرات لم تعد فقط شأنًا تقنيًا أو لوجستيًا، بل أضحت جزءًا من معادلات الردع، والتحالفات، والحوكمة العالمية للطاقة، ولذلك، فإن التعامل مع أزمات مثل احتمال إغلاق مضيق هرمز لا يقتصر على الإجراءات العسكرية أو الدبلوماسية، بل يتطلب استراتيجيات طويلة الأمد لإعادة هندسة شبكة الطاقة العالمية على أسس أكثر أمنًا وتعددًا.